شهد إقليم أمهرة في إثيوبيا محاولة انقلابية في الثالث والعشرين من يونيو الجاري، استهدفت الإطاحة برئيس الوزراء "آبي أحمد"، وإسقاط نظام الجبهة الديمقراطية الثورية (EPRDF)، الذي يحكم البلاد منذ 1991، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات حول دوافع الانقلاب، والجهة التي تقف وراءه، واحتمالات تكراره مستقبلًا، والإجراءات التي قد يلجأ النظام لاتخاذها، لتحقيق الاستقرار الأمني، والحفاظ على السلامة الإقليمية للدولة، وتحقيق الاندماج القومي في البلاد.
دلالات التوقيت:
كشف الإعلام الحكومي الإثيوبي عن وقوع محاولة انقلابية، بدأت باقتحام مجموعة مسلحة مكتب رئيس إقليم أمهرة "أمباتشو مكونن"، واغتياله هو وأحد مستشاريه، وكذا المدعي العام للإقليم، خلال اجتماع عُقد بمدينة بحر دار عاصمة الإقليم، لمناقشة أحداث العنف الإثني التي اندلعت به مؤخرًا. وعلى التوازي، اغتيل رئيس أركان القوات المسلحة الإثيوبية "سيري مكونن" على يد حارسه الشخصي، بالعاصمة أديس أبابا، وهو ما يؤكد ارتباط الحادثين، ويوحي بوجود مخطط يستهدف تحريك عناصر مسلحة من أجل إسقاط النظام.
وفي هذا السياق، أكد بيان صدر عن حزب أمهرة الديمقراطي، أن الجنرال "أسامنيو تسيجي"، القائد العسكري والرئيس السابق لجهاز الأمن بإقليم أمهرة، هو العقل المدبر لهذه المحاولة الانقلابية. وكان "تسيجي" قد سُجن بتهمة الضلوع في محاولة انقلابية سابقة قبل عدة أعوام، حيث حكم عليه بالسجن المؤبد عام 2009، قبل أن يتم الإفراج عنه عام 2018، بعدما استفاد من عفو حكومي صدر لصالح بعض القيادات العسكرية والمعارضين السياسيين، حيث استرد "تسيجي" رتبته العسكرية، وعُين مديرًا للأمن بإقليم أمهرة.
وتتزامن هذه المحاولة الانقلابية مع ذكرى محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها "آبي أحمد" في 23 يونيو 2018، وهو ما يحمل معه رسالة بالغة الدلالة تؤكد استمرار ونمو التيار المعارض للمشروع الإصلاحي لرئيس الوزراء بشقيه السياسي والاقتصادي، مع الاعتراض على سياسته الخارجية، خاصة المصالحة مع إريتريا. كما أن انطلاق المحاولة الانقلابية من إقليم أمهرة، يكشف عن تمدد التيار المعارض خارج العاصمة، وذلك للدرجة التي أضحت تمثل تهديدًا حقيقيًّا لبقاء النظام السياسي، والسلامة الإقليمية للبلاد.
دوافع المحاولة الانقلابية:
تكمن دوافع هذه المحاولة الانقلابية في رغبة القائمين عليها في التصدي لسياسات رئيس الوزراء الإثيوبي، التي يعتقدون أنها لم تحل مشكلة الاندماج القومي بالبلاد، وأنها تتجه لتكريس هيمنة جماعة أورومو الإثنية على السلطة، على حساب جماعتي الأمهرة والتجراي، حيث تهيمن الأولى على الحكم في إثيوبيا تاريخيًّا منذ عهد الأسرة السليمانية عام 1270م، فيما تعتبر جماعة تجراي أكبر قوة عسكرية بالتحالف الحاكم للبلاد، الذي يضم أربعة مكونات أساسية، هي: جبهة تحرير تجراي، وحركة أمهرة الديمقراطية الوطنية، والمنظمة الديمقراطية لشعب أورومو، والجبهة الديمقراطية للشعب الجنوبي الإثيوبي.
وكان "آبي أحمد" قد انتُخب رئيسًا للوزراء في أبريل 2018، باعتباره شخصية توافقية تحظى بقبول عناصر الجبهة الحاكمة، وذلك خلفًا لـ"هيلا ميريام ديسالين" الذي تفاقمت في عهده الاحتجاجات من جانب القوميات الإثيوبية، خاصة جماعة أورومو، وهي أكبر الجماعات، وجماعة أمهرة التي تمثل 25% من الشعب، وذلك إثر شروع الحكومة في إجراء توسعات تشمل إقامة منطقة اقتصادية بإقليمي أوروميا وأمهرة، مما أدى لزيادة المخاوف من أن تأتي تلك التوسعات على حساب تهجير الآلاف من المزارعين في الإقليمين.
وفي محاولة لرأب الصدع، أعلن "آبي أحمد" عن مشروع للإصلاح السياسي والاقتصادي، لتحقيق المصالحة الوطنية بالبلاد، والنهوض بأوضاعها الاقتصادية، وتسوية النزاعات الإقليمية، خاصة النزاع الحدودي مع إريتريا، فشكل حكومة ضمت 29 وزيرًا، منهم العديد من الوجوه الجديدة التي تم اختيارها اعتمادًا على الكفاءة والتمثيل الإقليمي. كما أفرج عن الكثير من قادة المعارضة السياسية، وتعهد بفتح حوار موسع مع المعارضة السياسية، ورفع أسماء العديد من حركات المعارضة من قائمة الحركات الإرهابية.
لكن رئيس الوزراء اتجه للاستغناء عن أغلب رجال الحرس القديم، خاصة القيادات الأمنية، وفي مقدمتهم مدير جهاز الأمن والاستخبارات الوطنية، ورئيس الأركان. واعتقل العديد من القيادات المحسوبة على النظام السابق، بدعوى انتهاك حقوق الإنسان والفساد السياسي. كما قام بتصفية نشاط العديد من الشركات التابعة للقوات المسلحة، ومنها شركة "ميتيك"، المشاركة في بناء سد النهضة، مع الإعلان عن تأجيل المشروع حتى عام 2022.
وأثارت تلك السياسة الكثير من الجدل، حيث تفاءل البعض بالإجراءات الإصلاحية لرئيس الوزراء، خاصة أنه صاحب تجربة فريدة في تحقيق المصالحة بين المسلمين والمسيحيين بمدينة جيما (مسقط رأسه). في المقابل، تكونت جبهة معارضة لرئيس الوزراء، ينتمي أغلبها للحرس القديم، لا سيما هؤلاء الذين ينتمون لجماعتي أمهرة وتجراي، والذين يرون في "آبي أحمد" تهديدًا لمناصبهم القيادية ومكتسباتهم المالية. لذا توالت الاستقالات داخل الجبهة الحاكمة، وسط انتقادات لرئيس الوزراء بالارتجالية والتسرع في اتخاذ القرارات، والانشغال بقضايا العلاقات الخارجية على حساب قضايا الإصلاح الداخلي، والتي كان آخرها وساطته بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في السودان.
في هذا السياق، يمكن تفسير دوافع الانقلاب العسكري الأخير بأمرين، هما: رغبة عناصر الدولة العميقة بإثيوبيا في الحفاظ على مصالحها الخاصة، وسعي جماعة أمهرة لاستعادة نفوذها ودورها في حكم البلاد، بعدما تراجع نفوذها منذ عام 1991، إثر سقوط نظام الإمبراطور "منجستو هيلاميريام".
وهنا انخرط الجنرال "تسيجي" في تجنيد ميليشيات مسلحة غير نظامية من شباب الأمهرة، داعيًا إياهم للتمرد على الحكومة المركزية، احتجاجًا على انتهاكات حقوق الإنسان والاغتيالات الشخصية، وتخفيض رواتب الموظفين بإقليم أمهرة. وقد صرح "تسيجي" مؤخرًا بأن التحديات التي يواجهها شعب الأمهرة في الوقت الراهن تشبه تلك التي حدثت في البلاد قبل نحو خمسائة عام، في إشارة ضمنية إلى سيطرة جماعة الأورومو على البلاد، الأمر الذي دفعه إلى تحدي النظام الحاكم، استنادًا إلى الثقل السكاني لجماعة الأمهرة، وتمتعها بخطوط اتصال مع العديد من القوميات الأخرى، بما يؤهلها لقيادة تحالف قادر على الإطاحة بالنظام.
الإجراءات الحكومية:
دفعت المحاولة الانقلابية رئيس الوزراء الإثيوبي لارتداء زيه العسكري، للمرة الأولى منذ تقلده منصبه، حيث أعلن "آبي أحمد" أن القوات الحكومية قد أحبطت الانقلاب، وأن الوضع الأمني أضحى تحت السيطرة. كما اتهم جهات خارجية -لم يحددها صراحة- بأنها لا تريد أن ترى إثيوبيا مستقرة، في إشارة لوجود ارتباطات خارجية لمدبري الانقلاب. ودعا "آبي أحمد" شعبه إلى التماسك والتضامن في مواجهة دعاة الفتنة الذين يقوضون استقرار البلاد منذ أكثر من ثلاثة عقود.
واتخذت الحكومة الإثيوبية أيضًا بعض الإجراءات الاحترازية لمواجهة التداعيات المحتملة لمحاولة الانقلاب، فنشرت الآلاف من العناصر المسلحة والمعدات العسكرية الثقيلة في المناطق الحيوية بالعاصمة والأقاليم، وتم اغتيال قائد الانقلاب الجنرال "تسيجي"، واعتقال العشرات من المتهمين بالضلوع في الانقلاب، وعلى رأسهم قائد القوات الخاصة بإقليم أمهرة، مع قطع خدمة الإنترنت عن البلاد، وذلك للحيلولة دون التواصل بين العناصر المناوئة للنظام، ومنع استغلال الحدث من قبل عناصر المعارضة الأخرى. كما أعلن البرلمان الإثيوبي الحداد على أرواح ضحايا الانقلاب، وتم تنكيس الأعلام على جميع المؤسسات الحكومية.
متطلبات الاستقرار:
إن نجاح الحكومة في إجهاض الانقلاب العسكري لا يعني أن إثيوبيا قد لا تواجه انقلابات عسكرية في المستقبل، فالإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الانقلاب تتعامل مع أعراض مشكلة عدم الاندماج القومي بالبلاد، ولا تعالج أسبابها الجذرية، المتمثلة في سوء إدارة التنوع الإثني في إثيوبيا، والتهميش السياسي، وعدم العدالة في توزيع عوائد التنمية، في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة أنها تحقق واحدًا من أعلى معدلات النمو الاقتصادي بالقارة الإفريقية.
ويلاحظ أن المجتمع الإثيوبي يتسم بالتنوع الإثني واللغوي والثقافي، حيث يضم 85 جماعة إثنية. وقد سعت النظم السياسية الإثيوبية المتعاقبة لتحقيق الاندماج بين القوميات الإثيوبية، لكن أغلبها اتبع أساليب إكراهية، لم يُكتب لها النجاح، لذا طبق نظام الجبهة الديمقراطية الثورية أسلوبًا يرمي إلى تحقيق "الاندماج الوظيفي" بين القوميات الإثيوبية، من خلال تطبيق نظام الفيدرالية الإثنية، حيث تم تقسيم الدولة إلى تسعة أقاليم، يحمل كل منها اسم الجماعة الإثنية الكبرى التي تقطن فيه، ومنح الأقاليم الحكم الذاتي، والحق في تقرير المصير.
وبالرغم من ذلك، استمرت المشكلة القومية، واتسع نطاق العنف الإثني بالبلاد، والذي أدى مؤخرًا لنزوح زهاء 2.5 مليون مواطن داخل البلاد. ويعود ذلك إلى ممارسات الجبهة الحاكمة، التي تحتكر السلطة، ولا تسمح إلا بهامش طفيف بالمشاركة السياسية لبعض الأحزاب الموالية لها. إذ تُسيطر الجبهة على جميع مقاعد البرلمان (547 مقعدًا)، ولا تسمح بوجود تمثيل عادل لمعظم القوميات بأجهزة ومؤسسات الدولة. كما تتمسك بتطبيق القوانين المقيدة للحريات، ومنها قانون مكافحة الإرهاب، الصادر عام 2009، والذي يطلق يد الأمن في قمع المعارضة. فضلًا عن استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم أوجادين.
ويتوقع أن تأخذ التوترات السياسية والأمنية في إثيوبيا خطًّا متصاعدًا بعيدًا عن التهدئة والإصلاح السياسي، رغم تطبيق حالة الطوارئ في البلاد منذ فبراير 2018، وذلك نظرًا لضعف التيار الإصلاحي المعتدل داخل التحالف الحاكم، وغياب الحوار بين النظام والمعارضة الحقيقية، سواء في إطار جماعتي أمهرة وتجراي، أو حتى جماعة أورومو، التي ينتمي إليها رئيس الوزراء، والتي يوجد داخلها العديد من الحركات المعارضة، وأهمها حركة تحرير أورومو، بزعامة "أوميجتا شارو" التي ترى أن "آبي أحمد" لا يمثلها، وأنه محسوب بدرجة أكبر على التحالف الحاكم.
لذا، فإن تحقيق الاستقرار في إثيوبيا يتطلب اتخاذ سياسات إصلاحية، تضمن المشاركة الحقيقية في السلطة، وتكفل احترام حقوق الإنسان، وتوفر لكافة الجماعات الإثنية الحصول على نصيب عادل من عوائد التنمية. إذ لم يكن من الممكن الارتكان إلى تمتع الأقاليم بالحكم الذاتي، والحق في تقرير المصير، في ظل وجود الكثير من القيود الدستورية على ممارسة هذا الحق، وأهمها: موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي بالإقليم الذي يطالب بتقرير مصيره، وإجراء استفتاء على هذا الأمر على مستوى الدولة ككل، بعد مرور ثلاثة أعوام من موافقة المجلس التشريعي للإقليم.